فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين (49)} أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائما.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة:
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتنْفِرةٌ (50) فرّتْ مِنْ قسْورةٍ (51)}
قال ابن عباس: يريد الحمر الوحشية، ومستنفرة أي نافرة.
يقال: نفر واستنفر مثل سخر، واستسخر، وعجب واستعجب، وقرئ بالفتح، وهي المنفرة المحمولة على النفار، قال أبو علي الفارسي: الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال: {فرّتْ مِن قسْورةٍ} وهذا يدل على أنها هي استنفرت، ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام.
قال: سألت أبا سوار الغنوي، وكان أعرابيا فصيحا، فقلت: {كأنهم حمر} ماذا؟ فقال: {مستنفرة} طردها قسورة، قلت: إنما هو{فرت من قسورة}، قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فـ: {مستنفرة} إذا.
ثم قال تعالى: {فرّتْ} يعني الحمر {مِن قسْورةٍ}.
وذكروا في القسورة وجوها أحدها: أنها الأسد يقال: ليوث قسأور، وهي فعولة من القسر وهو القهر، والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمدا صلى الله عليه وسلم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد، ثم قال ابن عباس: القسورة، هي الأسد بلسان الحبشة، وخالف عكرمة فقال: الأسد بلسان الحبشة، عنبسة وثانيها: القسورة، جماعة الرماة الذين يتصيدونها، قال الأزهري: هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها: القسورة: ركز الناس وأصواتهم ورابعها: أنها ظلمة الليل.
قال صاحب (الكشاف): وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.
{بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة (52)}
أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك، ونظيره {لن نُّؤْمِن لك حتّى تُنزّل عليْنا كِتابا نّقْرءهُ} [الإسراء: 93] وقال: {ولو نزّلْنا عليْك كتابا في قِرْطاسٍ فلمسُوهُ بِأيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] وقيل: إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار، وقيل: كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل، إلا أن يراد بالصحف المنشرة، الكتابات الظاهرة المكشوفة، وقرأ سعيد بن جبير {صُحُفا مُّنشّرة} بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد، كأنزله ونزله.
{كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة (53)}
{كلاّ} وهو ردع لهم عن تلك الإرادة، وزجر عن اقتراح الآيات.
ثم قال تعالى: {بل لاّ يخافُون الآخرة} فلذلك أعرضوا عن التأمل، فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة، كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت.
{كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ (54) فمنْ شاء ذكرهُ (55)}
ثم قال تعالى: {كلاّ} وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة.
ثم قال تعالى: {إِنّهُ تذْكِرةٌ} يعني تذكرة بليغة كافية {فمن شاء ذكرهُ} أي جعله نصب عينه، فإن نفع ذلك راجع إليه، والضمير في {إِنّهُ} {وذكره} للتذكرة في قوله: {فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} [المدثر: 49] وإنما ذكر (ت) لأنها في معنى الذكر أو القرآن.
{وما يذْكُرُون إِلاّ أن يشاء الله}.
قالت المعتزلة: يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب: أنه تعالى نفى الذكر مطلقا، واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر، وقرئ {يذكرون} بالياء والتاء مخففا ومشددا.
ثم قال تعالى: {هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} أي فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عما جِئتم به.
وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه.
و{مُعْرِضِين} نصب على الحال من الهاء والميم في {لهُمْ} وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل.
{كأنّهُمْ} أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم {حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية.
وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي مُنفّرة مذعورة؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
الباقون بالكسر، أي نافرة.
يقال: نفرت واستنفرت بمعنى؛ مثل عجِبت واستعجبت، وسخِرت واستسخرت، وأنشد الفراء:
أمْسِكْ حِمارك إنّه مُسْتنْفِرٌ ** في إِثْرِ أحْمِرةٍ عمدْن لِغُرّبِ

قوله تعالى: {فرّتْ} أي نفرت وهربت {مِن قسْورةٍ} أي من رُماة يرمونها.
وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسْورة.
وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيْسان: القسْورة: هم الرّماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو (ظبيان) عن أبي موسى الأشعري.
وقيل: إنه الأسد؛ قاله أبو هريرة وابن عباس أيضا.
ابن عرفة: من القسْر بمعنى القهْر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع.
وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عُصب الرجال؛ قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:
يا بنتُ كُونِي خيْرة لِخيِّره ** أخوالُها الجنّ وأهلُ القسْورهْ

وعنه: رِكْز الناس أي حسّهم وأصواتهم.
وعنه أيضا: {فرّتْ مِنْ قسْورةٍ} أي من حبال الصيادين.
وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النّبط: أريا.
وقال ابن الأعرابي: القسورة: أولُ الليل؛ أي فّرت من ظلمة الليل.
وقاله عِكرمة أيضا.
وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسْورة.
وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسْور.
وقال لبيد بن ربيعة:
إذا ما هتْفنا هتفة في ندِيِّنا ** أتانا الرجالُ العائدون القسأور

قوله تعالى: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} أي يعطي كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من ربّ العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلتُ إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم.
نظيره: {ولن نُّؤْمِن لِرُقِيِّك حتّى تُنزِّل عليْنا كِتابا نّقْرؤُهُ} [الإسراء: 93].
وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار.
قال مطر الورّاق: أرادوا أن يُعطوا بغير عمل.
وقال الكلبيّ: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك.
وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان.
وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا.
وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟ {كلاّ} أي ليس يكون ذلك.
وقيل: حقّا.
والأول أجود؛ لأنه رد لقولهم.
{بل لاّ يخافُون الآخرة} أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا.
وقرأ سعيد بن جبير {صُحْفا مُنْشرة} بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ.
إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت.
ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه.
قوله تعالى: {كلاّ إِنّهُ تذْكِرةٌ} أي حقّا إن القرآن عظة.
{فمن شاء ذكرهُ} أي اتعظ به.
{وما يذْكُرُون} أي وما يتعظون {إِلاّ أن يشاء الله} أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم.
وقراءة العامة {يذْكُرُون} بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى: {كلاّ بل لاّ يخافُون الآخرة} [المدثر: 53].
وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعمّ واتفقوا على تخفيفها.
{هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} في الترمذيّ وسنن ابن ماجه عن أنس بن مالك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: {هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} قال: «قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أُتّقي فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهلٌ أن أغفر له» لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب.
وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار.
وقال محمد بن نصر: أنا أهلٌ أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم. اهـ.

.قال أبو السعود:

والفاء في قوله تعالى: {فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين}
لترتيبِ إنكارِ إعراضِهم عنِ القرآن بغير سببٍ على ما قبلها من موجباتِ الإقبالِ عليهِ والاتعاظِ به من سوءِ حالِ المكذبين و{معرضين} حالٌ من الضميرِ في الجارِّ الواقعِ خبرا لما الاستفهاميةِ و{عنْ} متعلقةٌ بهِ أيْ فإذا كان حالُ المكذبين به على ما ذكر فأيُّ شيءٍ حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضدِ موجباتِ الإقبالِ عليهِ وتآخذِ الدواعِي إلى الإيمانِ بهِ وقوله تعالى.
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} حالٌ من المستكنِّ في {معرضين} بطريقِ التداخلِ أي مشبهين بحمرٍ نافرةٍ.
{فرّتْ مِن قسْورةٍ} أيْ من أسدٍ فعْولة من القسْرِ وهو القهرُ والغلبةُ وقيل: هي جماعةُ الرماةِ الذين يتصيدونها شُبهوا في إعراضِهم عن القرآن واستماعِ ما فيه من المواعظِ وشرادِهم عنه بحمُرٍ جدّت في نفارِها مما أفزعها وفيهِ من ذمِهم وتهجينِ حالِهم ما لا يخْفى وقوله تعالى: {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} عطف على مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بلْ يريدُ كل واحدٍ منهم أنْ يُؤتى قراطيس تنشرُ وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنْ نتبعك حتى تأتِي كلّ واحدٍ منها بكتابٍ من السماءِ عنوانُه من ربِّ العالمين إلى فلانِ بنِ فلانٍ نؤمُر فيها باتباعك كما قالوا {لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤْه} وقرئ {صُحْفا مُنْشرة} بسكونِ الحاءِ والنونِ {كلاّ} ردعٌ لهم عن تلك الجراءة {بل لاّ يخافُون الأخرة} فلذلك يُعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاءِ الصحفِ {كلاّ} ردعٌ عنْ إعراضِهم {إِنّهُ} أي القرآن {تذْكِرةٌ} وأيُّ تذكرةٍ {فمن شاء} أن يذكرهُ {ذكرهُ} وحاز بسيبهِ سعادة الدارينِ {وما يذْكُرُون} بمجرد مشيئتِهم للذكر كما هو المفهومُ من ظاهرِ قوله تعالى: {فمنْ شاء ذكرهُ} إذْ لا تأثير لمشيئةِ العبدِ وإرادتِه في أفعالِه، وقوله تعالى: {إِلاّ أن يشاء الله} استئناءٌ مفرغٌ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أيْ وما يذكرون بعلةٍ من العلل أو في حالٍ من الأحوالِ إلا بأنْ يشاء الله أو حال أنْ يشاء الله ذلك وهو تصريحٌ بأن أفعال العبادِ بمشيئةِ الله عز وجل وقرئ {تذكرون} على الخطاب التفاتا وقرئ بهما مشددا {هو أهْلُ التقوى} أي حقيقٌ بأنْ يُتقى عقابُه ويؤمن به ويطاع {وأهْلُ المغفرة} حقيقٌ بأنْ يغفر لمنْ آمن بهِ وأطاعهُ. اهـ.